في محراب الإلهامأين أنت ايها
الساقي فاملأ هذا الجام خمرا ... املأه من تلك الخمرة الوردية التي اعتصرت من
جنى الروح , واستخلصت من ذوب سر القلوب .ثم اسقنيها من شفاه كؤوسك الدرية المجوهرة أقداحا إثر أقداح , اسقنيها
نشوة تهيج مني فؤادي الغافي وتسكر عقلي الحيران .وأنت أيها الشادي ...تعال فاجلس الى جانبي لتتم سكرة الروح بشجي
من غنائك , أسمعني أنغام الناي والكمان , أطربني بوقع الدفوف والألحان . أبهجوا
عيني بمرآى الورود الفاتنة والأغصان المتمايلة ,
دعوا كل هذا ياخذ بمشاعري وإحساسي ليسكرني عن هذا الوجود الذي
حولي , فعسى أن تضمحل مني كثافة هذه المادة والجسم فأظل قلبا وروحا , وأبقى معنى وإحساسا . وعسى أن يدكرني إذ
يدركني إذ ذاك فيض من نور القدس , فيعكس إلى نفسي قبسا من إشراقه ويقذف فيها نورا من ضيائه , فيصفو مني القلب وتجلو أمام عيني
أسرار هذه الحياة . لكي أغدو مع كل صباح فأترجم للناس حديث النسيم مع الأغصان , وأشرح لهم مغازلة
الطيور للأزهار , ولكي أسير مع الأصائل فأقرأ لهم آيات الشمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران , وأردد مع
العنادل والبلابل أنغام الحب والجمال , ولكي أسكرهم من جمال هذا الكون بخمر
من مداد قلمي , وأطربهم من ألحانه ببيان قلبي ولسني . هات أيها الساقي... هاتها كؤوسا مترعة من هذه الراح ,
لكي أنفض بها من قلبي أحزانه , ولكي أغدو مخمورا بحرارة لذعها ويسكر مني العقل بنشوتها . هاتها ليهيج مني الفكر فأنطق بأسرار
القلوب , ولتستعلي مني الروح فأنثر من مكنون المعاني ودرها , وأكشف عن خلجات النفوس ووجدها ,
وأبين عن آلام الأفئدة وحبها . سأرسلها أنغاما تطرب القلوب من غير أوتار , سأبعثها شذى عطرا يبهج النفوس من دون أزهار ,
سأبعث اليوم تاريخا من الحسرات والآلام أغمض عينيه من دهر ونام , سأشعل من جديد زفرات لمعت في
صدور .. ونارا الهبت في قلوب , ثم خمدت بعد أن أحالتها إلى رماد ! سأعيد الحياة بروح من بياني إلى ( ممو ) و ( زين )
ضحيتي نار الحب والغرام . لأدواي قلبيهما بفيض من شعري وإحساسي , إذ لم يرحمهما أحد
بدواء الوصل والإسعاد , سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلك المسكين الذي كواه الحب المستعر وسحقه
الكيد والحقد , وعن قلب تلك البريئة الطاهرة طهارة المزن بين السحب . تلك التي أذابها الشقاء واعتصرتها يد الظلم كما تعتصر
الوردة الناعمة في كف غليظة قاسية . سألبس كلا من هذين الحبيبين ثوبا مطرزا من بياني , ثم
أرفعهما إلى أوج التاريخ فليخلدا وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحياة , ثم ليمر من أمامهما كل مستعرض وناظر . فليبك أناس
حرمانهما واحتراقهما , وليفتتن آخرون بلطف (زين ) وجمالها . وعسى أن يسأل لي الرحمة
أيضا كل من يسترحم لهما , وعسى أن يدركني أنا أيضا أثر من عطفهم وقبس من دعائهم ,
وعسى أن يقول أناس : رحمه الله فقد وشى حياتهما بوشي جميل , وغرس قصتهما في بستان الخلود . وعسى أن يتلطف الناقدون لسفري هذا
في نقدهم , فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال ولكنه طفلي الغالي ... عزيز الى نفسي , مدلل عند قلبي ,
جميل في عيني . وهو بستان وإن كان قد يرى بين ثماره ما هو فج غير يانع , غير يانع , غير أنها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبي
. وحسبهما من جهدي ما قدمت , وحسبي منها ما أثمرت
الجزيرة الخضراءكان ذلك في حوالي عام 1393 م في جزيرة ( بوطان) المعروفة
اليوم باسم - جزيرة ابن عمر - تلك التي تقع على شاطئ دجلة , وتمتد في اتساع شاسع بين
الهضاب والتلال
الخضر الواقعة في شمال العراق . واسم هذه الجزيرة يتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من
جمال الطبيعة وبهائها , اذ نتشعب بين رياض طبيعية بديعة , وينعكس اليها من شائر
أطرافها بريق دجلة
الذي يحف بمعظم جهاتها , كما يزيد في روعة جمالها جبالها الشاهقة في
جوف السماء ,
التي تفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العالم , وتنتشر من حولها
سر الخلود وآيات الجلال .
وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأمير زين
الدين ) , حيث كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهد العثمانيين منقسمة إلى
عدة إمارات , يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارة والقوة . ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب ... بل
كان يتمتع إلى ذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان . والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه من
امتلاكه العجيب لقلوب أمته , واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه , مما أذاع اسمه مقرونا بالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها ,
بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها . ولم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل ,
كقصور بقية الأمراء من أمثاله , وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع .. كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذول لتصميمه
وتشييده وإقامة أبهته ..! ولم تكن في داخله أبهاء وقيعان فاخرة فحسب , وإنما كان يزدان أيضا
بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر , وأنواع المجوهرات الغريبة والفاخرة ..! أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان ..
وبمثل ذلك من أجمل الجواري والفتيات ... يجبن في أنحائه , ويضفن على رحابه جوا سحريا يشع بالفتنة
والجمال . غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحدة من تلك الجواري والحسان , وإنما كانت
سرا لدرتين شقيقتين غير كل أولئك . خلقهما الله في ذلك القصر ، بل في تلك الجزيرة كلها مثلا
أعلى للجمال ، ونموذجا كاملا للفتنة والسحر الإلهي في اسمى مظاهرهما ، وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذا الإبداع العجيب في ذلك
القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع ، ومبدع وصانع ، بأن الجمال إنما هو هذا ..! لا رصف الأحجار وفن
النقش وصنعة التلميع ، هذه فتنة تبهر القلوب وتسكر الألباب ، وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار ، وشتان ما بينهما
من فرق .
ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين . كان اسم
كبراهما ( ستي ) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة / قد أفرغ الجمال في كل جارحة من
جسمها على حدة ، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئا أبرع من السحر وأبلغ من الفتنة . وأما الصغرى
واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة
في مظهر أبدع من أختها وأسمى . كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع ، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ، ذات عينين
دعجاوين أودعهما الله كل آيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير . ولم تكن شقراء ، غير أن شعرها
الاسود الفاحم - وقد أحاط كسحر الليل بوجهها الذي قسمت ملامحه أبدع تقسيم
وامتزج فيه عند
الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع - كان يثخن الألباب فتكا ويغمر
العقل سكرا .
وكانت لها الى ذلك كله رقة عجيبة في روحها ، وخفة متناهية في دمها . فكانت في
مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المال والخفة واللطف . وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا
لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر عن
معظم الأبصار ، فقد كان اسماهما ذائعين منتشرين في سائر أطراف
الجزيرة بل في
كثير من بلاد كردستان ، يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال . وقد كان من الغريب
في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن
الأنظار ، لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي الزعامة فيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم ، مما يجعلهم
يتحرجون من اختلاط الجنسين ألا بمقدار ... هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا من هذه
الغيرة بين جانبيه ، وزادها ما كانت تتمتع به اختاه من ذلك الجمال النادر الذي أبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي
معظم البلاد الاخرى .. ولذلك فقد كان من العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب
منه غير السماع ... وتسقط الأخبار.
عيد الربيع كان الوقت أصيلا ، والناس يودعون يوم
20 مارس ليستقبلو من ورائه ربيع سنة
جديدة ، وكانت أعمالهم وحركات طرقهم وأسواقهم قد اتخذت مظهرا لنشاط
جلي غير معهود .
فقد كان عليهم جميعا أن يتهيئوا ويستعدوا للخروج مع صباح اليوم الثاني إلى ظاهر المدينة .
ويقضوا بياض نهارهم فوق المهاد الخضر الوارفة ، وعلى ضفاف دجلة وفي سفوح تلك الجبال . وذلك جريا
وراء تلك العادة السارية في جميع أنحاء كردستان من الإحتفال في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع ويومه الجديد . فالطبيعة لها عليهم
حق ومنة كبرى . ومن واجبها عليهم أن يحتفلوا بها في مولدها الجديد ، فينطلقوا جميعا من كبير
وصغير ورجل وأنثى تاركين ورائهم كل آثار التصنع والتكلف التي تعج بها دنيا المدن والعمران ، الى
حيث تلوح صفحات
الإبداع الإلهي الساحر . فيخشعون لها وحدها ، ويظلون معها في نشوة ومرح إلى أن تتوارى عنهم شمس ذلك اليوم ...
وكان مظهر هذا النشاط الملموح عاما في كل أرجاء الجزيرة وأطرافها ، لا سيما حول قصر الأمير .
فقد كان على رجال
القصر وحاشيته أن يفرغوا مساء ذلك اليوم من تنظيم منهاج لموكب الأمير الذي سيشرف بنفسه على مهرجان الربيع .
وقد ينتهز الفرصة فيقوم أيضا برحلة إلى الصيد مع جمع من رجاله وحاشيته . أما داخل القصر ، فقد كان أهدأ ناحية فيه القسم الأعلى
منه . كان خاليا تماما ليس فيه أحد إلا
الأميرتان زين و ستي ، كانت منحازتين إلى إحدى الشرفات ومتخذتين
مجلسهما على بعض
متكآت تلك الشرفة ترقبان ساعة الغروب ، وترنوان إلى الأصيل والآكام ، وعلى صفحة دجلة الذي يتشعب ملتويا حول معظم أطراف الجزيرة . قالت ستي : ’’ يبدو أنني لن أعثر
على الرجل الذي أعجب به إلا أذا بلغ أثر جماله لدي مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمة وأثرها في نفسي
..‘‘ فأجابتها زين : ’’ ولكن ويحك إن هذا يعني أن يكون ذلك الرجل بالغ الذروة في
الجمال . وأين
تجدين من قد استقر فوق هذه الذروة ..؟ أم لعلك تحسبين أن الرجال
كلهم يعيشون في
قصر مثل قصرك هذا ، وينشؤون في مثل ما أنت فيه من نعمة ؟ ‘‘
قالت
: ’’ ولكن لا بد عند البحث أن يوجد مثل هذا الرجل الذي
أتخيله وأعنيه .‘‘ فأجابتها زين مستضحكة : ’’ ولكن كيف تستطيعين أن تبحثي عن
رجل خيالك هذا ..؟ أم أنك قد أصبحت رجلاًً كالرجال .. تداخلينهم وتستعرضينهم في أنديتهم ومجامعهم حتى إذا ما عثرتي عليه أتيت
به وركنت اليه ..؟!‘‘ فأطرقت ستي متكئة ، وهي تداعب خصلات من شعرها ، ثم هزت رأسها وهي تقول : ’’
أجل ، فالمشكلة إنما هي هذه فقط ...‘‘ وعادت إلى السكوت . وبعد قليل انفجرت زين بضحكة عاليه .. ثم أسرت إلى أختها قائلة : ’’
لقد وجدت لهذه المشكلة حلا فاسمعي ...‘‘ واعتدلت في جلستها ، ثم دنت إلى
أختها ، كأنما تخشى أن يسمعها أحد . وأخذت تقول : ’’ تعلمين أن غدا هو عيد الربيع ، وأن
أهل الجزيرة كلها سيخرجون في هذه المناسبة إلى الحقول والرياض . ولا شك أن ذلك أجمل
فرصة لما تفكرين فيه
..‘‘ فقالت : ’’ ويحك وأين الحل في هذا ..؟؟ فمتى كانت
النساء يمتزجن
بالرجال في مثل هذا اليوم الإمتزاج الذي تظنين ..! وهل تجهلين أنه
ستكون لنا أمكنة
خاصة من دون الرجال ، أم ..‘‘ فقاطعتها زين قائلة : ’’ ولكنني لم أقل لك الحل بعد . أريد
أن أقول إن أحدا من الناس لن يبقى غدا في هذه المدينة ، وسيتلاقى كلهم في
هذا الفضاء . فما علينا إلا أن نتأخر عن موكب القصر غدا متظاهرتين بفتور وانحطاط جسمي
يمنعنا من الخروج ، حتى إذا خلا القصر خرجنا متنكرتين في لباس الرجال وهيآتهم ، ثم نندس في صفوفهم ولا شك أنهم سيحسبوننا من شباب
القصر وغلمانه . وأكبر الظن أننا سننجح في الفكرة ، وسيتاح لكل منا أن تجد من بين مختلف شباب
هذه الجزيرة الواسعة الأطراف من يروقها ويعجبها .. ‘‘ ولم تكد زين تعرض الفكرة على أختها حتى أعجبت بها ، وسرعان ما اتفقتا
على تطبيقها في الصباح الباكر . ثم
أخذتا تتحدثان عن وسائل تنفيذ الفكرة وعما يجب اتخاذه حيال ذلك من
تدابير .. غير أنهما اضطرتا أخيرا إلى قطع الحديث عندما تنبهتا إلى أن
الشمس قد توارت في غيبها منذ فينة ، وإلى أن الظلام الذي امتد على سطح الجزيرة وتكاثف فوق بيوتها التي راحت
تختفي عن الأعين مخلفة آثارها من الأضواء المتفرقة التي تشع هنا وهناك . وخشيتا أن يحوم حول
مجلسهما ذاك من يسمع شيئا من حديثهما الذي ينبغي أن يكون سرا لا يطلع عليه أحد ، فطوتا الحديث
، وغادرتا الشرفة
، وأخذتا تتدرجان في الممشى الفسيح الذي يؤدي إلى البهو . وهناك رأتا بعض
غلمان القصر فسألتاه : ’’ أخرج الأمير من الديوان أم لا ..؟؟‘‘ فأجابهما بأنه
لا يزال في الديوان مع بعض رجاله ، يتحدثون عما يختص برحلة الصيد التي عقد عليها العزم مع
بعض أصفيائة في صباح الغد . ثم حياهما
بانحناءة وانصرف . فسرهما هذا النبأ ... إذ كان ذلك من جملة الأسباب التي ستيسر لهما النجاح في
تنفيذ الفكرة التي اتفقتا عليها .. تلك الفكرة التي لم تكن سوى أثر لما تتمتعان به من الجمال
النادر ، إذ كانتا تتصوران أنه لا يكافئهما إلا من كان في مثل ذلك الجمال أو نحوه . ولذلك فقد كانتا تتمنعان على كثير من الراغبين
فيهما والطامعين بهما ، انتظارا للفتى
المناسب .... ثم إنهما تبادلتا التحية .. وإنصرفت كل منهما إلى
مقصورتها الخاصة
، على أن موعدهما الصباح ... وفي
صباح اليوم التالي أشرقت شمس بوطان على أسواق خالية ، وميادين خاوية . . فقد خرج جميع
من فيها يستجلون العيد الذي أقبل يحييهم من فوق مسارح الطبيعة الغناء التي
انتشت وازدهرت من جديد بعد أن ظلت منكمشة متوارية شهورا عديدة تحت أعاصير الشتاء وركام
الثلوج . كان الناس كلهم ينتشرون بين أجواء خمرية ساحرة ، تتهادى على ضفاف النهر الفضي .. وفوق
الروابي الخضر ..المطرزة بأبدع نقوش الزهور ، وفوق سفوح ’’ جودي ‘‘ المفروشة
بأبهى ديباجة من السندس المتألق . وكنت تنظر إليهم فتمتد بهم العين في الجهات الأربع ، ثم لا تكاد تبلغ
النهاية . تراهم خليطا متضاربا من شتى الطبقات والأشكال والاتجاهات ، قد امتزج فيهم الغني والفقير
، وتحاذى الصغير والكبر وتلاقى المثقف والجاهل . فيهم العاشق الذي جاء ليغمر جراح قلبه بكؤوس من خمر النسيان .. وفيهم الشاعر
الذي أطرق خاشعا يرنو إلى الفتنة الحالمة ، يستوحي منها آيات الإلهام ، وفيهم الفيلسوف الذي
أسرته الحيرة وملكه الذهول ، فهوى ساجدا لخالق هذا السحر
والجمال ...!! ولا بدع .. فالطبيعة أمهم جميعا من دون تفريق ، تحنو عليهم حنوا واحدا وتبتسم
لهم ابتسامة واحدة ، وتسقيهم حمياها من كأس لا تختلف . فلهم جميعا أن يثملوا اليوم برحيقها ويرقصوا في أحضانها ، وأن يجد
كل في سرها دواء قلبه ، وعلى كل مظاهر الجمال الزائف وأشكاله المصطنعة أن تنتبذ عنهم إلى مكان
قصي .. فالخمر هنا ليس إلا ما اعتصر من شذاها ، والجمال ليس إلا ما انعكس من بهائها ... ولكن أمرا واحدا غير هذا استطاع أن
يلفت عقول الناس في ذلك اليوم في حيرة بالغة ، فقد كان في ذلك الجمع شابان لو أن تلك الطبيعة
الخلابة استجمعت كل فتنها وسحرها ثم أرادت أن تقذف بجميع ذلك إلى الدنيا في مظهر شابين فيهما كل تلك الفتنة وذلك السحر لما
استطاعت أن تجود بأبدع منها وأجمل ..!! كانا يثيران عواصف الدهشة لدى كل من يلمحهما مما آتاهما
الله من ذلك الجمال الغريب ..!! وكان لا يمر أحد من أولئك الحشد إلا وقفة الذهول فترة ..
كأنما يتسائل :
من عسى أن يكون هذان الشابان اللذان لا يبدو فيهما شيئ من كثافة الدنيا ..؟؟ ألعلهما ملكان
نزلا من سمائهما للمشاركة في هذا العيد ؟ !! أم هما توأمان لهذه الطبيعة الخلابة .. جسدتهما في
مظهر هذين الشابين هدية إلينا وشكرا لاحتفائنا بها ..؟!! ولقد كان لهم في الواقع أن يعجبوا كل ذلك .. فإن ذينك الشابين لم
يكونا سوى الأميرتين ستي وزين ..! خرجتا تشتركان في ذلك الإحتفال بعد أن تنكرتا في لباس
الرجال وأشكالهم ، ليسهل عليهما استعراض ذلك الجمع الحاشد الذي قد تجد فيه كل منهما فتى أحلامها ، والشاب الملائم لجمالها . بيد
أن الأميرتين اللتين سحرتا الألباب لم
تستطيعان العثور في ذلك اليوم على أي شاب بين ذلك الجمع الغفير يسحر
لبهما ويحوز
إعجابهما ..!! إذ كانتا تنظران إلى معنى الجمال بمقياسهما الخاص ، وتقدرناه بالنظر للمعجزة التي
اختصهما الخلاق بها ! وأنى للمعجزة الخارقة أن تظهر هنا وهناك ؟ وكيف يتأنى للمثل الأعلى أن
يتخذ مظهره في أفراد عديدة
.. كأي شيء آخر غير معجز أو غريب ..؟! وهكذا ظل الناس
بياض نهارهم ذاك
يلهون ويمرحون على شطآن الأنهار وبين الورود والأزهار ، وفوق الآكام والتلال وتحت ظلال الأشجار ،
إلى أن هب النهار ليدبر ، وأخذت أشعة الشمس تتقلص نحو المغيب ، وظهرت ظلال الروابي والأشجار
شاحبة متطاولة بين الحشائش والأزهار ، وأخذت الشمس ترنو إليهم من فوق منحدرها صفراء ذاوية ، تحييهم تحية الوداع وتوقظهم من غمزة
الخيال الحالم إلى مواجهة الحقيقة .. الحقيقة التي تطبع كل شيء بطابع الزوال والفناء ، وتحرمه من
عظمة الخلود والبقاء .ومع تلك التحية التي راحت الشمس تلوح إليهم بها قام الناس
جميعا منصرفين
إلى دورهم
.
وعند الرجوع حيث كانت الطرق والشعاب تهدر بتلك الجموع من
الرجال والنساء والولدان
، عائدين إلى بيوتهم ، وقد انحازت الأميرتان في سيرهما إلى طريق بعيدة قليلا عن زحام أولئك
النساء اللواتي امتزجن مع الرجال في ذلك الطريق ، حدث امر غريب ...!!! فقد انتبهت الأميرتان إلى أن
فتاتين من بين ذلك الحشد تقبلان نحوهما في خطى متعثرة ووجهين مشدوهين ..! فأحرجتا .. ولك
تشكا في أنهما
فتاتين قد عرفتنا وألمتا بأمرهما . ولكن الفتاتين ما إن دنتا منهما حتى أصابهما ما يشبه الدوار ، وظلتا تتقدمان
إليهما ، ثم وقفتا أمامهما ، وشخصت عيناهما في شكليهما ، ثم أخذت تترنح من كل منهما القامة ... ثم سقطت كل
منهما على الأرض الواحدة تلو الأخرى ، في غيبوية كاملة عن الدنيا وما فيها ..! أما
الأميرتان فقد انتابهما ذهول شديد لذلك
وتعلقتا بمعرفة تينك الجاريتين ومن عسى تكونان .. ومن أي طبقة هما
..؟ ولكنهما
خشيتا لأن تقفا قليلا إلى جانبهما للوقوف على سرهما ، فيلفت ذلك نظر الناس الذين يمرون على
مقربة منهما ويجتمعوا عليهم .. فتظاهرتا بعدم الانتباه إلى شيء غير طبيعي وأخذتا تواصلان سيرهما
غير مكترثتين .. حتى إذا ابتعد الناس عن مكان الجاريتين وأدركتا أن الجموع قد تجاوزتهما عادتا أدراجهما خلسة إلى مصرعهما
وقد داخلتهما رحمة وشفقة شديدة عليهما . ووصلتا إلى مكانهما .. وهما لا تزالان في غشيتهما تلك ،
فجلستا إلى جانبهما تسرحان النظر في ملامحهما ، وتمعنان في شكل كل منهما وهيئتهما التي قد
تكشف لهما الستار
عن شخصيتهما ولعلهما تذكران أتعرفانهما أم لا ؟ .. ولكنهما لم تعرفا عنهما شيئا ، ولم تستطع
إحداهما أن تتذكر أنها كانت رأتهما أو رأت واحدة منهما في يوم ما في أي مكان .! كانت على وجه
كل منهما مسحة رائعة من الجمال مشوب بسيما الجلال ومعنى العزة . مما يدل على أنهما تتمتعان بمكانة ذات سمو ..! وكانت
ثيابهما متشابهة في طرازها وشكلها ، مما يدل على أنهما شقيقتان أو قريبتان .. أما أناقة ذلك الهندام
وبداعة وشيه وطرزه فقد كانت تدل دلالة واضحة على مبلغ النعمة التي تتقلبان فيها ..!!
وأخذت الأميرتان ترنوان اليهما بعين من الأسى والإشفاق ،
وهما مطروحتان فوق تلك الأرض ، وقد غمر كل منهما الإحساس في بحر لجي من الذهول المطبق . وليس من حركة فيهما إلا تنفس الصعداء
الذي يمر في صدرهما جيئة وذهابا . وراح ذلك الإشفاق يستحيل تدريجا بقدرة خالق الأرواح إلى حب
غريب غير مفهوم .!! وأخذت نظراتهما وهما جالستان إلى جانبهما في تلك البيداء تتسائل في عجب : أي روض ترى إخضر فيه هذان الغصنان ؟
وفي أي خميلة تفتحت هاتان الوردتان .!؟ أم أي الجداول والغدران أكسبتهما سحرها ؟!! ولم يطل
جلوسهما .. فقد لمحتا على البعد فرسانا تجري بهم الخيول في بعض تلك الشعاب باتجاه المدينة . فأدركتا أنهم
الأمير وصحبه عائدين من الصيد ، وتذكرتا أن من الأنسب عودتهما إلى القصر
قبل وصول الأمير . فنهضتا تودعان الجاريتين اللتين لم تزالا في غيبة عن رشدهما ، بعد أن عمدت
كل منهما إلى الخاتم النادر الثمين الذي يتلألأ في أصبعهما ، والذي نقشت عليه بوشي دقيق
رائع من حجارة الماس والياقوت اسم صاحبته فألبسته إصبع كل من الجاريتين ، واستبدلتا به خاتمين بسيطين كانتا في يد كل منهما
، لينوب ذلك عنهما في التعبير عن تقديرهما والعطف عليهما ، ثم ليكون وسيلة لهما فيما بعد إلى
معرفتهما والإهتداء إلى أصلهما . وهكذا مضت الأميرتان بعد أن استعاضتا عن الدر والألماس النادرين خرزا وزجاجا بسيطين
* عيد الربيع الذي أشار اليه الخاني هنا هو عيد نوروز ..
يحتفل به الأكراد والفرس في الحادي والعشرين من آذار من كل سنة ... يحتفل به
أبناء الشعب الكردي بالخروج إلى الطبيعة متزينين بالحلى الفلكلورية ...يعقدون حلقات الرقص
والدبكات .. ويشعلون النار التي ترمز إلى النار التي أشعلها ( كاوا الحداد ) قبل آلاف السنين
معلنا نهاية الظلم والإستبداد .. رمزا للنصر والتحرر.
سر الجاريتين
تكن الجاريتان اللتان كان من أمرهما ما حدث من الصدمة والذهول امرأتان كما
تبدوان ..! وإنما كانا شابين بارزين من رجال ديوان الأمير ! كان أحدهما
ابن الوزير الأول اسمه ( تاج الدين ) ، وواحدا من أشقاء ثلاثة عرفوا من بين
سائر الحاشية بالنجدة والشجاعة الخارقة ، واقترنت أسماؤهم في أنحاء الجزير
كلها بالهيبة والإجلال ، وكان للأمير اعتماد بالغ عليهم في كثير من ظروفه
الخاصة والمناسبات . وكان اسم أحد شقيقي هذا الشاب ( عارف ) والثاني (
جكو).
وأما الآخر فكان أحد سكرتيرية الديوان يقال له ( ممو ) وكان
الصفي الوحيد لتاج الدين من بين شقيقيه وسائر أصحابه ، قد جعل الله بينهما
من المودة والإخاء ما يندر اتفاق مثله بين أي أخوين أو صديقين . ولعل الذي
جمعهما على ذلك التحابب والإخاء ما عرفا به من تعلقهما الشديد للجمال . فقد
كانا مولهين به ولها عجيبا في كل صوره ومظاهره ، وكان يبلغ بهما التأثر
بحقيقته مبلغا فوق ما هو معتاد أو طبيعي ، كما كانا في شوق شديد إلى أن
يلمحا ولو مرة في العمر هاتين الأميرتين اللتين ذاع جمالهما في معظم جهات
كردستان وبقاعها .
وقد كان هذا هو الذي دعاهما في ذلك اليوم إلى التنكر
في لباس النساء وهيأتهن والظهور بمظهرهن ، فاستبدل كل منهما عن حلته
بغلالة حريرية من أفخر أنواع الإستبرق ، وتمنطق في وسطه بمنطقة مزركشة من
أفخر ما تحويه الغانيات الفاتنات . كما لف كل منهما على رأسه معجزا رائعا
تتدلى من سائر حواشيه خيوطه الحريرية الناعمة ، وحبكه فوق جبينه حبكا فاتنا
على نحو ما تفعله فتيات الأكراد ، وترك خصلا من شعره الطويل تبرز من فوق
الصدغين ، كأنهما سالفان رائعان يظهران من تحت ذلك المعجز البديع . ثم
انطلقا يستعرضان الجمال في كلا مظهريه ، مظهر الطبيعة الحالمة والمروج
البديعة ، ومظهر الوجوه الفاتنة واللحاظ الساحرة ، وكان أكبره همهما هو
استجلاء جمال تينك الأميرتين اللتين سحرتا الجزيرة باسميهما ، وما زالا منذ
أمد بعيد يترقبان الفرص السانحة لرؤيتهما .
وفي أثناء رجوعهما مع
الناس كانا قد انتشيا بروح الجمال وثمل عقل كل منهما بخمره ، فكان لرؤيتهما
في تلك الساعة فعل الطعنة القاضية التي صدعت قلبيهما . ولم يكن ذلك كله
ليفقدهما الرشد والإدراك لولا أن حقيقة روحانية أجلَّ من ذلك ساورتهما وطغت
على مشاعرهما . كانت تلك الحقيقة هي الحب .. الحب الروحاني الخالص الذي
يتسامى على الإعتبارات الجسدية ، وتعالى فوق حقيقة الجنسية من ذكورة وأنوثة
. فقد مس كل من كليهما سويداء قلبه ، وانطلق تياره الخفاق منبعثأ في كل
مداخل الروح الأخرى التي كانت تعلقت بها منذ الأزل ، ثم ضلت عنه في
منحدرهما إلى خضم هذا العالم المتلاطم ، حيث طفقت تبحث عنهما بين صور
الطبيعة والأزهار . وتصغي إلى صوتها في غناء العنادل والأطيار ، وتفتش عن
مظهرها في الوجوه والأشكال ، إلى أن التقت بها اليوم بعد الشوق المستعر
والفراق الطويل . فلا غرابة أن تذهل الروح في تلك الساعة عن جسمها ، ولا
عجب حينئذ للعين أن تشخص وللعقل أن يتبدد وللإحساس أن يغيض . ولا غرابة أن
يتغلب الحب .. فيصرع ذينك الفارسين ويطرحهما كفراشة بين أذيال اللهب .
وبعد
هزيع طويل مضى من تلك الليلة ، استطاع الجسم أن يلفت إليه روحه ويستعيدها
مرة أخرى ، كما استطاع العقل أن يستيقظ ويؤوب إلى رشده .
واستيقظ ممو
وتاج الدين من غيبوبتهما ليجد كل منهما نفسه منطرحا بين تلافيف ليل أسود
مظلم قد توارت من سمائه النجوم ، في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم ،
ولا يرفرف في سمائها جناح . وقد أطبق عليهما جوٌّ من النسيان والذهول ،
فهما لا يذكران شيئا مما حدث لهما ، ولا يعلمان ما الذي طرحهما في تلك
الأرض وما السبب في بقائهما هناك . غاية ما استطاع كل منهما أن يشعر به في
نفسه خفقان غريب في القلب ، وانهيار تام في الأعصاب وفتور عام في القوى ،
وخبل شديد في الذاكرة ..!!
وبعد قليل نهضا في جهد ملموح وإرهاق واضح
ليأخذ سمت طريقهما إلى المدينة حيث استطاعا أن يصلا إلى داخل العمران بعد
تحامل شديد وإعياء . وهناك حيا كل منهما الآخر وانصرف إلى بيته .
ومضى
يوم .. و يومان ... وما يقارب الإسبوع ..وكل من ممو وتاج الدين يقاسي آلاما
غامضة تشتد ولا تلين !! وتزداد ولا تقل ، ويعاني شعوراً غريباَ لا يدرى
سببه ولا يدرك تفسيره . وأخذ إحساس كل منهما بمظاهر الأشياء وصور الناس
يختلف عن الأول اختلافا باديا ! فقد أصبح كل منهما يشعر بالوحشة من كل شيء ،
ويحس بالملل من سائر ما كان يألفه . وكأنما كانت روح كل منهما تبحث في
أعماق نفسه عن شيء عزيز افتقده ، وعن حقيقة ساميه لاحت لها ثم ضلت عنها ،
ولكن ما هو ذلك الشيء ؟ ومتى أحس به حتى يشعر بأنه افتقده ؟ كل ذلك كان سرا
غامضا عنهما ، يحومان حوله ولا يستطيعان اختراقه . وكانت غرابة ذلك الشعور
وغموض تلك الأحاسيس يجعلان كلاً منهما متحفظا عن الإفضاء بذلك إلى صاحبه ،
ويشعره بحرج من بيانه وإيضاحه له ، إذ قد يذهب حديثه الغامض مذاهب كثيرة
بصاحبه لتفسيره وكشفه ...
غير أن تلك الآلام والمشاعر المرهقة .. ما
لبثت أن اتخذت مظهرها في صورة كل منهما وأوضاعه . فقد أخذ يبدو ذلك جليا في
ذبول شكلهما وفتور نشاطهما وكثرة تفكيرهما . مما يسر لكل منهما أخيرا سبيل
الإفضاء بأمره وعرض شكواه وأوجاعه على الآخر ولكن دون أن يفيدهما ذلك في
استجلاء شيء من الحقيقة أو فهم سرها المكنون ، اللهم إلا ما يتبادلانه من
المواساة ، وما يشعران به من الأنس ولو كان مجهولا مصدرها .
وبينما
كانا ذات يوم مجتمعين في بعض خلواتهما ، إذ لمح تاج الدين في يد ممو خاتما
من الجوهر النادر يتألق في إصبعه ، فأمعن النظر فيه قليلا ، ثم قال :
’’ لقد كان علي أن أبارك لك هذا الخاتم البديع ، ولكني لم ألمحه في يدك قبل اليوم ، فمتى استحدثته ؟‘‘
فنظر
ممو في أصابيع يديه ، وهو لا يدري شيئا عما يقوله تاج الدين ، ليجد في
مكان خاتمه قطعة من الجوهر الثمين لم يكن قط شعر بها من قبل ! وسرعان ما
عمد إليها فأخرجها من إصبعه وقد استولت عليه دهشة بالغة ، ثم أخذا يمعنان
فيه باستغراب وتعجب . وفي تلك الأثناء انتبها إلى اسم ’’ زين ‘‘ منقوشا
عليه بأجمل وشي متألق من حجارة الماس والياقوت ، وقبل أن يبدي ممو عجبه
لذلك الخاتم الذي لا يدري عنه أي شيء لاحظ بوحي الحالة خاتما تماما في إصبع
تاج الدين ..! وقد نقش عليه بمثل ذلك الوشي والطراز اسم ’’ ستي ‘‘ .
وغشيتهما
الحيرة من جديد ، وازداد عليهما السر غموضا وأخذا يرددان في دهشة بالغة
هذين الاسمين ’’ زين ‘‘ و ’’ ستي ‘‘ ، ولكن دون أن يتذكر أحد منهما من هما
ستي وزين ...!!
وهنا رفع رأسه إلى ممو ، ونظر إليه كالمحموم قائلا :
’’ ويحك إنهما خاتما الأميرتين ... أميرتي الجزيرة ... شقيقتي الأمير زين الدين ...‘‘
وعاد
كل منهما يحملق في الخاتم الذي بيده مرة أخرى ، ويمعن في نقشه وتألقه
الرائع مما أكد لهما أن صاحبتيه ليستا سوى أختي الأمير .! ومن بين ذلك
البريق المتألق أخذ سرهما الذي كان غامضا يجلو ويبين ، وذهبت ذاكرة كلم
منهما تعود أدراجها إلى الماضي .... الماضي الذي كان غيبا عنهما إلى تلك
اللحظة .
لقد تذكرا أنهما في يوم النوروز حاولا رؤية هاتين الأميرتين ،
ولكنهما لم يريا واحدة منهما بين الوجوه والأشكال . ثم تذكرا ساعة العودة
.. وتذكرا أنهما لمحا في تلك الأثناء شابين لا كالشباب .. كانا في غاية
الروعة والجمال .. وأنهما قد دنيا منهما ليعرفا من يكونان ... و ... إلى
هناك توقفت الذاكرة بهما ! غير أنهما لم يشكا في أن شيء غير طبيعي قد حدث
لهما إذ ذاك بسبب ذينك الشابين ، وأن الغشية التي حبستهما في الفلاة تلك
الليلة كانت من أثر ذلك الحادث ، ولا بد أن هذين الخاتمين قد وجدا لديهما
منذ تلك الليلة . وأخيرا استطاعا أن يتأكدا من أن ذينك الشابين لم يكونا
سوى الأميرتين اللتين كانا يبحثان عنهما ، وأنه قد قام لديهما أيضا ما كان
قد قام في ذهنيهما من فكرة التنكر ... وإخفاء الحقيقة ... أما الخاتمان فلم
يشكا في أنهما إنما تركتاهما في يديهما واستبدلتا بهما ما كان معهما لشعور
جميل على الأقل بادلتاهما به .
وبارتفاع الستار الذي كان حائلا دون
فهمهما لتلك الآلام والاحساسات التي كانت تساورهما ، شعر كل منهما براحة
وانطلاقة هدأتا من حاليهما . غير أن ذلك الشعور ما لبث أن أوجد في نفس كل
منهما تأثيرا مختلفا عن الآخر . أما تاج الدين فقد استطاع أن يتغلب بذلك
على آلامه ، وأن ينشط ولو إلى حد من ذلك الارهاق الذي كان يعانيه . وكأنما
كان معظم آلامه تلك آتيه من تعمي الأمر وغموضه عليه . وأما ممو فإن انقشاع
الحقيقة بالنسبة إليه ما لبث أن أضرم جذوة ناره وزاد في دقات قلبه ، وكأنما
كانت روحه قبل ذلك تائهة عن الطريق الذي اهتدت إليه ، ضالة عن الذات التي
شغفت بها . أما اليوم وقد إتضح كل شيء ، وظهر انسان تلك الروح ، فهيهات
منها الهدوء ما دامت بعيدة عنه ، وهيهات أن لا تثور وتضطرب إلا بعد أن
تلقاه وتركن إليه .
وشعر تاج الدين بمعاني الأسى بادية في مظهر ممو فنهض اليه ، وألقى بيده على كتفه قائلاً :
’’
إسمع يا صديقي : إن من الامعان في الخطأ أن نسلم أنفسنا إلى اضطرابات من
هذا النوع ، فلن تكون النتيجة بعد ذلك سوى استفحال تأثيرها واشتداد وطأتها .
ولا ريب أن ذلك ليس مناسبا لمثلي ومثلك ... فكلانا في هذا البلد معروف
بالجلد والإقدام وكل منا تعرفه هذه الجزيرة بالبطولة والعزم والبأس ، فماذا
عسى أن يكون أثر هذا الذي نعانيه في سمعتنا إذا عرف ذلك غداً بين الناس ؟؟
وماذا سيلحق بنا إذا تسامع الناس بحديثنا ... وكيف أننا ونحن أولو العزيمة
والشجاعة والبأس قد تخاذلت عزيمتنا وانهرات شجاعتنا وتبدد بأسنا بسلاح
امرأتين وقوتهما فقط ..؟؟ فلينهض كل منا من فراش هذا الفتور ، ولنمط عنا
رداء التوجع الوهمي الذي إنما أسبلناه نحن على نفسنا ولنتذكر أننا أشداء
... وأنه لا يمكن للوهن أن يتخذ طريقه إلى نفوسنا ..‘‘
ولكن ممو لم يكن
يبدو عليه أنه يعي شيئا مما يقوله تاج الدين ، فقد كان واضحا أنه كان
يقاسي آلاما عنيفة جلية في خفقات قلبه الظاهرة وعينيه المخضلتين . كان
الاسم الوحيد الذي يردده هو ’’زين ‘‘ ،وكان الشيء الوحيد المنتبه إليه هو
الخاتم الذي في يده . فقد كان مرة يحملق فيه ، وأخرى يقبله ويظل ضاماً عليه
شفتيه .
وأخيراً نظر إلى تاج الدين وقال له :
’’ أخي : إن هذا
الذي تحدثه الآن ليس ذلك الذي عرفته ، إنما هو اليوم انسان آخر ، فلا تبحث
فيَّ عن شيء مما تسميه البأس والجلد والعزم . فقد والله فقدت كل ذلك ، وليس
الذي تراه الآن إلا جسما متهلهلا قد عشش الألم في كل نقطة منه . وقلبا
متأجاجاً تتقد فيه نار لا تعرف هولها ، أما الراحة والطاقة والجلد والصبر ،
فقد انتهت علاقة كل ذلك من سائر جوارحي وجسمي فدعني على الأقل أستقبل قدري
إن لم تكن تشعر بالمعذرة لي ..‘‘
ولم يكد تاج الدين يسمع هذه الكلمات
من ممو حتى أيقن أن الأمر قد تجاوز به إلى حالة لا تغني فيها النصيحة
والإرشاد ، وامتزجت في سائر مشاعره رقة شديدة من أجله لم يستطع حيالها إلا
أن يعتصم بالسكوت .
عجوز القصر
ولنترك
الآن حديث ممو وتاج الدين لنعود إلى القصر ونعلم ما الذي كن من أمر ستي
وزين ، فلقد رجعتا في تلك الليلة أدراجهما إلى القصر ، واستطاعتا دخوله دون
أن ينتبه أحد إلى حقيقتيهما . ودون أن يرتاب أحد من الحجاب في أنهما من
بعض الغلمان الحسان في القصر .
وما إن تجردت كل منهما من ذلك المظهر
الذي تنكرتا فيه وجلستا تستريحان من النصب الذي لحقهما في ذلك اليوم حتى
أخذت كل منهما تشعر بقلق واضطراب واضحين في نفسهما ، ولم تكن إحداهما تعرف
شيئا عن سر ذلك القلق أكثر من أن له اتصالاً بتينك الجاريتين اللتين حدث
لهما ذلك الشأن العجيب . فقد كان منظرهما ، وهما على تلك الحالة من الذهول
وعلى وجهيهما تلك المسحة من الجمال المشوب بسما الوقار - ملازما لخلدهما .
وكانت تتضافر على ذلك عدة عوامل ، بعضها غرابة ذلك الحادث الذي أصابهما ،
وبعضها التطلع إلى معرفة حقيقتيهما ومن تكونان من الناس ، وبعضها ذلك
الشعور الغريب الذي أخذ يساروهما نحو تينك الجاريتين المجهولتين من حنان
وإعجاب بل وحب آخ في الزيادة والإشتداد رغم أنهما امرأتان مثلهما على ما
تظنان وتحسبان .
وهكذا أخذ التفكير في الجاريتين يستولي تدريجيا على
خيال كل منهما ، وبدأت تلك الأحاسيس تسيطر على قلبيهما ، فلم تكونا توجدان
إلا مختليتين في بعض غرف القصر أو جهاته تتهامسان في هذا الشأن وتتبادلان
إفضاء خلجاتهما النفسية حول ذلك .
غير أنه لم يستطع أحد من سكان القصر
رغم ذلك ملاحظة حالهما تلك سوى مربية عجوز لهما يقال لها ( هيلانة ) . كانت
هرمة مسنة ، غير أنها أقوى من الدهر في مكره ، وكانت متغضنة الملامح باهتة
الشكل إلا أن ذكائها كان فتيا يلتهب . فقد أخذت هذه العجوز تلاحظ أن حالة
طارئة تطوف بهما منذ اليوم الذي خرج فيه الناس إلى مهرجان نوروز ، ومضت
تراقب فيهما تطورات تلك الحالة التي لك تلبث أن اتخذت مظهرهما في كثير من
أوضاعهما وأحوالهما !
وفي صبح ذات اليوم استأذنت عليهما فوجدتهما
مطرقتين ذاهلتين ، وقد أخذ التفكير منهما كل مأخذ ، وتجلت مظاهر الحيرة
والأسى على وجه كل منهما ، فدنت إليهما ، وجثت على مقربة منهما ، ثم قال :
’’
بروحي يا أميرتيَّ الصغيريتين فديتكما ، وجعلت الله ربي حافظا لكما ،
فأنتما انسان كل عين ، وحبة الشوق لكل فؤاد . يخيل إلي أن هذا القصر قد كمد
بعض بريقه وتوارى من أنحائه الكثير من أنسه منذ اليوم الذي خرجتما فيه
لمهرجان الربيع ثم عدتما بما تحملان من هذا الإطراق والتفكير والذبول .!!
فهل لي أن أسأل عن السر الذي طواه مقدمكما ، أو عن الخمرة التي تسببت كل
هذا في ذهولكما ؟ فقد أستطيع معونتكما في شيء إذا كان مستعصيا ، أو استخدام
تدبيري وسحري إن كان خافياً ‘‘.
فنظرت كل من ستي وزين الواحدة منهما إلى الأخرى ، كأنما تتشاوران في إفضاء الأمر إليه . ثم قال إحداهما :
’’
إن كل ما حدث لنا أننا أصبنا - على ما يبدو - منذ ذلك اليوم بضيق وكرب لا
ندري لهما سببا ، ويبدو أن شيئا بسيطا من أثر ذلك لا يزال يساورنا‘‘ ،
فأدركت
هيلانة أنهما تحاولان كتم الأمر عنها. ودعاها ذلك الإدراك إلى ظن أن يكون
الأمر حبا أو غراما انعقدت نواته لديهما في ذلك اليوم . إذ كثيرا ما يحدث
فيه أن يتصادف الشباب والفتيات وتتبادل الألحاظ مظاهر الفتنة والجمال ،
ويحصل التعارف والتعلق ... فدنت منهما ، ثم أخذت تقول لهما :
’’ يبدو
أنكما يا أميرتيَّ لا تعلمان بعد مبلغ ما آتاكما الله من سحر وجمال، وأنكما
تجلسان منه على عرش عز على الدنيا كلها أن تجد لكما فيه نظيرا ، وإلا
لأدركتما أن كل جمال في هذه الجزيرة خاشع منحن أمامكما حتى تثيرا الحيرة من
أجله وتذكيا نار القلب من ورائه ؟ وهلا أخبرتماني عنه حتى تعرفا كيف يأتي
أسيرا في قيود الهوى ، ذليلا تحت سلطان هذا السحر ؟!! ‘‘ .
فأجابتها ستي :
’’
ليس هذا الذي تظنين أيتها الخالة هو السبب في حيرتنا ... إنما السبب في
ذلك شيء آخر ... كنا نود أن نستطيع إيضاحه والإبانة عنه حتى تعالجيه لنا
بدهائك وتدبريك . ولكنه لغز ... لغز مقفل من كل جوانبه لا نفهم شيئا عنه .
كل ما نستطيع بيانه هو أن نقول لك القصة التي جرت ... والأمر الذي رأيناه
...‘‘
وهنا تبسطت العجوز في جلستها ، ومدت وجهها نحو ستي بعد أن أسندت أسفله إلى كفها قائلة :
’’ حدثيني يا ابنتي عن القصة .. فلا بد لي إن شاء الله من كشف سرها وحل لغزها ..‘‘
ومضت تحدثها ستي القصة قائلة :
’’
بينما كنا نمشي في ذلك اليوم ... يوم الربيع بين المروج والرياض ، إذ
فاجأتنا غادتين لم نر مثلهما لطفا وجمالا تقبلان نحونا في لهفة بادية وبخط
متعثرة . حتى إذ أصبحتا على مقربة منا إذا بعاصف من الذهول الشديد يعصف
بهما ويطرحهما في جانب من تلك الارض ... ودنونا إليهما لننظر في شكليهما
ونستكشف شخصيهما ، ولكننا لم نستطع أن نفهم عنهما شيئا ، فقد كانتا تبدوان
غريبتين في زيهما وملامحهما .
ووقفنا فترة أمام منظرهما وهما في تلك
الغيبوبة وقد سرى تأثير شديد منه إلى نفس كل منا ، وشعرنا بروحين سرعان ما
طافتا حول قلبينا ثم استقرتا في سويدائه ... فإذا بهما يخفقان بمعان كثيرة
من بعضها الحنان والحب .
كانتا تبدوان أيتها الخالة كأبدع كآسين صافيين
، وإن كنا نحن الخمر التي تترقرق فيهما ، بل كانتا كأجمل مصباحين مضيئين
وإن كنا نحن النور المتوقد من ذبالتهما . بل كانت في شكل أزهى مرآتين
وضيئتين ، وإن كنا نحن الشمسين اللتين تشعان منهما .
ثم تركناهما أيتها
الخالة على تلك الحالة ومضينا ... دون أن نعلم ما الذي تم بشأنهما . بل لم
ندر أكان ذلك حقيقة أم رأته أعيننا ، أم حلما من أحلام تلك الطبيعة صورتها
لنا خمرها ؟!! ‘‘.
فأطرقت العجوز برأسها تحملق في الأرض وقد أدهشها ما سمعت ، ثم نظرت إليهما وقالت :
’’
بل أظن يا أميريتي الصغيرة أن ذلك كما قلت حلما من أحلام الطبيعة .. أما
أنه كان حقيقة رأتها عيناكما ، وأما أنه يقينا قد تعلق قلباكما من كل ذلك
الجمع الحاشد من الشباب والفتيان بتينك الجاريتين المجهولتين . فذلك أمر
مستحيل أو لعله واقع كما تقولين ، ولكنكما تمنيتما مثل تينك الجاريتين
أطفالا لكما . لا أنكما شغفتما بهما حبا من دون الرجال .
من الذي - يا
بنيتي - يصدق أن المرأة يتم جمالها إلا إذا كان الرجل هو مرآة ذلك الجمال ،
ومن الذي يصدق أن الرجل يمكن أن يكون لجماله معنى لو لم تأت المرأة لتضع
فيه ذلك المعنى ؟ وهل أثبت جمال ليلى وفتنة حسنها لو لم ينعكس إليها تاج ’’
خاسرو ‘‘ وسلطانه !! وهل سمع أحد في الناس أن زهرة قد افتتنت بالزهر أو أن
بلبلا غنى فوق أعشاش البلابل ؟؟!
لا يا أميرتيَّ الفاتنتين ، ليس هذا
الذي تقولانه إلا وهما من الخيال أو حلما من الأحلام . فلا تدعا للوهم
والأحلام مجالا إلى قلبيكما ...‘‘.
فابتدرتها زين قائلة :
’’ ولكنك
قلت لنا أن لديك من التدبير والعزائم والدهاء ما تستطيعين الكشف به عن كل
لغز وخافية . فهلا استعملت شيئا من ذلك في حل هذا اللغز .. أم يبدو أن
عزائمك قد خرفت وتقدم بها السن ، فلم تعد تصلح لشيء .
أما أن حديثنا
هذا خيال أو وهم فليس كذلك ، وما هو والله إلا الحقيقة التي شاهدناهما
بأعيننا ، ولقد دخل حب تينك الجاريتين في قرارة قلب كل منا . وسواء أكانتا
في الحقيقة ملكين أو شيطانين أو امرأتين ، فإن عندنا منهما هذا البرهان
الذي يؤكد أن ما رأيناه حقيقة لا خيال ، وهو هذان الخاتمان اللذان سللناهما
حينذاك من إصبعيهما ليكونا عونا لنا في البحث عنهما ‘‘ .
وعمدت إلى الخاتمين فألقت بهما إليها .
فتلقفتهما العجوز ، ومضت تحملق فيهما وتقلبهما وتمعن في شكليهما ، ثم هزت رأسها وقال :
’’
أما الآن فأستطيع أن أفهم شيئا مما تقولان ، وأستطيع أن أقول لكما إني
عثرت على خيوط هذا السر الذي لا بد لي من كشف قناعه . ولكن لا بد لذلك لي
من مهلة ، ولا بد أيضا من بقاء هذين الخاتمين لدي ‘‘..
فأجابتاها إلى ذلك بشرط أن تحافظ عليهما محافظة شديدة ، وأن تكتم الموضوع كتمانا تاما عن كل واحد .
ثم إنها قامت عن مجلسهما بعد أن نفحتاها قسطا كبيرا من المال ، ووعدتاها بالمزيد عند نجاحها في المهمة .
وإن
هو إلا أمد قصير حتى كانت العجوز قد أوصلت نفسها إلى شيخ هرم في بعض أجزاء
الجزيرة أمضى حياته كلها في علوم الحرف وحسابه ، حيث نقدته دينارا ، ثم
جلست إليه تقول :
’’ لي طفلان يتيمان أيها الشيخ هما سائر ما بقي لي من
أمل في الحياة خرجا مع هؤلاء الناس - بحكم طفولتهما - إلى الفلاة في يوم
عيد الربيع وهما بكامل وضعهما الطبيعي وعلى أحسن ما يكونان رشدا وعقلا ،
فلما جاء المساء عادا إلى البيت وقد تشعثت هيأتهما ، وتمزق لباسهما ،
ذاهلين لا يملكان وعيا ولا إحساسا ، مشدوهين كأنما قد أصيبتا بمس في
عقليهما . وهما - أيها الشيخ - إلى هذه الساعة على هذا الوضع الغريب الذي
لم أفهم له تأويلا .
ولقد جئتك بخاتمين لهما ، لم ألمحهما في يديهما
إلا منذ ذلك اليوم - ويخيل إليَّ أن فيهما سر الخمرة التي أودت بعقليهما
إلى هذا الذهول - لكل تستعين بهما في استخدام طاقتك لاكتشاف حال هذين
الطفلين وبيان حقيقة هذا البلاء المتشبث بهما ، أهو صرع وجنون .. أم خمر هو
وعشق .. أم هو ماذا ؟؟!!
ذلك رمز ألقيته إليك أيها الشيخ فافهمه .
وهناك سر دفين في هذين الخاتمين فاعلمه . وحسبك أن ترشدني إلى صاحبيهما ،
وتنبئني أهما ملكان يجوبان السماء ، أم شيطانان تحت الطوايا السبع ، أم
بشران مثلنا فوق أديم الأرض ؟! ‘‘ .
فأخذ الشيخ الخاتمين ، ثم أكب على دفاتره وحسابه ... وأخذ ينهمك مرة في الحساب والترقيم ، ومرة في الإطراق والتفكير .
وبعد قليل رفع رأسه إلى العجوز ، وأخذ ينظر إليها بعينين ذاويتين قد تغضن ما حولهما قائلا :
’’ أو لا بد من كل هذا الكذب والتزوير أيتها الماكرة العجوز ..؟
تقولين
طفلاك اليتيمان .. فهلا صدقت وقلت الدرتان اليتيمتان والغادتان النادرتان ؟
وتقولين صرع .. ومس .. وجنون .. فهلا أوضحت الحقيقة التي هي مس الروح
للروح ، وتعلق قلب بآخر ؟
أما هذان الخاتمان ، فليس صاحباهما ملكين في
السماء ولا شيطانين من الجن ، ولكنهما شابان معذبان ضاع قلباهما منذ ذلك
اليوم المشهود وراء هاتين الغادتين اللتين تقولين عنهما ، طفلاك .‘‘.
فهز رأسه مطأطئا وهو يقول : ’’ من غير شك .‘‘ .
وهنا دنت إليه العجوز وقالت :
’’
ولكني كنت أود أن أعرف من أي الناس هما ؟ وكيف العثور عليهما ؟ ألا قل لي
أيها الشيخ وأوضح ، فإن لك عندي فوق ما تريد إن أنت كشفت الستار عنهما ، أو
أرشدتني إلى جهتهما ومكانهما .‘‘.
فقال لها : ’’ أما هذا فليس لي إلى
فهمه سبيل ، وكل ما وراء الذي أخبرتك عنه لا يمكن الخوض في شيء منه إلا
بالحدس والتخمين . غير أني أستطيع إرشادك إلى حيلة قد تنفذين منها إلى
معرفتهما والإجتماع بهما ، وهي أن تنطلقي في شكل طبيبة ماهرة فتطوفي بمختلف
أنحاء هذه الجزيرة وبيوتها ، وتلفتي الأنظار بلباقة وبراعة ، إلى أنك ذات
خبرة ودراية بمختلف الأمراض النفسية والجسمية ، وأن لديك الوسائل المختلفة
لمعالجة مثل هذه الأمراض وماواتها . فلا ريب أن هذين الشابين معذبين اليوم
ولا ريب أنهما إذ يسمعان بأمرك يستدعيانك لشأنهما ومعالجة أمرهما . ‘‘.
فأعجبت العجوز بهذا الرأي . ثم أعطته دينارا آخر ، وشكرته وانصرفت .